كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فَمَا قَضَى أَحَدٌ مِنْهَا لُبَانَتَهُ ** وَلَا انْتَهَى أَرَبٌ إِلَّا إِلَى أَرَبِ

فَلَا جَرَمَ أَنَّ الْإِنْسَأن لا يَسْتَكْثِرُ الْمَالَ مَهْمَا كَثُرَ، بَلْ إِنَّ كَثْرَتَهُ هِيَ الَّتِي تَزِيدُ فِيهِ نَهْمَتَهُ، حَتَّى أنه لَيَنْسَى أنه وَسِيلَةٌ إِلَى غَيْرِهِ فَيَجْعَلُ جَمْعَهُ مَقْصِدًا يَتَفَنَّنُ فِي طُرُقِهِ كُلَّمَا سَلَكَ طَرِيقًا عَنَّ لَهُ مِنَ السُّلُوكِ فِيهِ طُرُقٌ أُخْرَى. قَالَ صلى الله عليه وسلم: لَوْ كَأن لابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ ذَهَبٍ لَتَمَنَّى أن يكون لَهُ ثَالِثٌ، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
وَالتَّعْبِيرُ بِالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْكَثْرَةَ هِيَ الَّتِي تَكُونُ مَظِنَّةَ الِافْتِتَأن لانَّهَا تُشْغِلُ بِالتَّمَتُّعِ بِهَا الْقَلْبَ، وَتَسْتَغْرِقُ فِي تَدْبِيرِهَا الْوَقْتَ، حَتَّى لَا يَكَادُ يَبْقَى فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا مَنْفَذٌ لِلشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَى غَيْرِهَا مِنْ طَلَبِ الْحَقِّ وَنُصْرَتِهِ فِي الدُّنْيَا، وَالِاسْتِعْدَادِ لِمَا أَعَدَّهُ اللهُ لِلْمُتَّقِينَ فِي الْأُخْرَى، وَمَا بَعَثَ اللهُ رَسُولًا فِي أُمَّةٍ وَلَا مُصْلِحًا فِي قَوْمٍ إِلَّا وَكَانَ الْأَغْنِيَاءُ أَوَّلَ مَنْ كَفَرَ وَعَانَدَ وَأَبَى وَاسْتَكْبَرَ، وَإِنَّ مُؤْمِنِي الْأَغْنِيَاءِ أَقَلُّهُمْ عَمَلًا وَأَكْثَرُهُمْ زَلَلًا. قال تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} [48:11]. وَقَالَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [8:28]. فَقَدَّمَ الْفِتْنَةَ بِالْأَمْوَالِ عَلَى الْفِتْنَةِ بِالأهلينَ، وَكَأَنَّهُ إِنَّمَا أَخَّرَ ذِكْرَ الْأَمْوَالِ هُنَا عَنْ ذِكْرِ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي طَبِيعَةِ الْحُبِّ لَا فِي الِاشْتِغَالِ وَالْفِتْنَةِ بِهِ خَاصٌّ، وَحُبُّ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ مَقْصِدٌ، وَحُبُّ الْمَالِ وَسِيلَةٌ لَا يَجْعَلُهُ مَقْصِدًا إِلَّا مَنْ أَعْمَتْهُ الْفِتْنَةُ عَنِ الْحَقِيقَةِ. وَلَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَخُوضَ فِي شَرْحِ فِتْنَةِ النَّاسِ بِالْمَالِ وَكَيْفَ تَشْغَلُهُمْ عَنْ حُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ الْأُمَّةِ وَالْوَطَنِ وَحُقُوقِ مَنْ يُعَامِلُهُمْ، بَلْ وَعَنْ حُقُوقِ بُيُوتِهِمْ وَعِيَالِهِمْ، بَلْ وَعَنْ حُقُوقِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا يُثْلِمُونَ شَرَفَهُمْ أَوْ يُقَصِّرُونَ فِي النَّفَقَةِ الَّتِي تَلِيقُ بِهِمْ لَأَطَلْنَا وَخَرَجْنَا عَنْ حَدِّ الْوُقُوفِ عِنْدَ بَيَانِ كَوْنِ الْمَالِ مِنْ مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِمِقْدَارِ مَا نَفْهَمُ الْعِبْرَةَ مِنَ الْآيِ، وَنَكُونُ قَدْ جَعَلْنَا الْكَلَامَ فِي الْمَالِ مَقْصِدًا كَمَا جَعَلَهُ الْأَشِحَّةُ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ مَقْصِدًا، أَمَّا لَفْظُ الْقِنْطَارِ فَمَعْنَاهُ الْعُقْدَةُ الْمُحْكَمَةُ مِنَ الْمَالِ، وَهُوَ مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ التُّجَّارُ الْآنَ بِالصَّرِّ أَوِ الصُّرَّةِ. هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِيهِ عِنْدِي وَسَائِرُ الْأَقْوَالِ فِي مَعْنَاهُ تَرْجِعُ إِلَيْهِ، فَمِنْهَا أنه الْمَالُ الْكَثِيرُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَمِنْهَا أنه وَزْنُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَلْفَ أُوقِيَّةٍ.
وَرُوِيَ مَرْفُوعًا عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ أَوْ أَلْفٌ وَمِائَتَا أُوقِيَّةٍ.
وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ أَوْ أَلْفُ دِينَارٍ وَمِائَتَا دِينَارٍ، وَرُوِيَ عَنْ أُبَيٍّ مَرْفُوعًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ثَمَانُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ كَذَا فِي الْمُخَصَّصِ، وَرُوِيَ عَنْهُ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ مِائَةُ رِطْلٍ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَعَنْ قَتَادَةَ أنه مِائَةُ رِطْلٍ مِنَ الذَّهَبِ أَوْ ثَمَانُونَ أَلْفًا مِنَ الْوَرِقِ. وَكَأَنَّ كُلَّ هَذَا مِمَّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْقِنْطَارِ بِاخْتِلَافِ الْعُرْفِ. وَيَشْهَدُ لَهُ مَا قَالَهُ ابْنُ سِيدَهْ فِي الْمُخَصَّصِ فِي بَعْضِ الْأَقْوَالِ فِيهِ إِذْ عَزَا الْقَوْلَ بأنه أَلْفُ مِثْقَالٍ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ إِلَى الْبَرْبَرِ، قَالَ: وَهُوَ بِالسُّرْيَانِيَّةِ مِلْءُ مَسْكِ ثَوْرٍ (أَيْ جِلْدِهِ) ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً. وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ أَبَا عُبَيْدٍ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ. وَنَقَلَ عَنْ سِيبَوَيْهِ: الْقِنْطَارُ عَرَبِيٌّ وَهُوَ رُبَاعِيٌّ، وَقِنْطَارٌ مُقَنْطَرٌ مُكَمَّلٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ. اهـ. وَقِيلَ: الْمُقَنْطَرَةُ الْمُحْكَمَةُ الْعَقْدِ، وَقِيلَ: الْمَضْرُوبَةُ مِنْ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ، وَقِيلَ: الْمُنَضَّدَةُ فِي وَضْعِهَا، وَقِيلَ: الْمَكْنُوزَةُ، وَلَا يَزَالُ النَّاسُ يَخْتَلِفُونَ فِي الْقِنْطَارِ فَهُوَ فِي الشَّامِ مِائَةُ رِطْلٍ بِرِطْلِهِمْ، وَرَطْلُهُمْ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ فِي أَكْثَرِ الْبِلَادِ، وَفِي مِصْرَ مِائَةُ رِطْلٍ بِرِطْلِهِمْ وَرِطْلُهُمْ 144 دِرْهَمًا.
(النَّوْعُ الرَّابِعُ الْخَيْلُ الْمُسَوَّمَةُ): ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْخَيْلَ الْمُسَوَّمَةَ هِيَ الرَّاعِيَةُ. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالرَّبِيعِ وَغَيْرِهِمْ، وَقِيلَ: هِيَ الْمُطَهَّمَةُ الْحِسَانُ أَوِ الْمُعَلَّمَةُ بِالْأَلْوَانِ وَالشِّيَاتِ، وَقِيلَ: الْمُرْسَلَةُ عَلَى الْقَوْمِ. فَالْأَوَّلُ مِنْ مَادَّةِ السَّوْمِ، يُقَالُ: سَامَ الدَّابَّةَ: رَعَاهَا، وَأَسَامَهَا: أَرْعَاهَا وَأَخْرَجَهَا إِلَى الْمَرَاعِي. وَمِثْلُهَا سَوَّمَهَا عِنْدَ هَؤُلَاءِ، وَفِي سُورَةِ النَّحْلِ: {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [16:10] قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّ سَوَّمَ بِالتَّشْدِيدِ غَيْرُ مُسْتَفِيضٍ فِي كَلَامِهِمْ. وَرَجَّحَ أَنَّ الْمُسَوَّمَةَ بِمَعْنَى الْمُعَلَّمَةِ. وَاسْتَشْهَدَ لَهُ بِقَوْلِ النَّابِغَةِ:
بِسُمْرٍ كَالْقِدَاحِ مُسَوَّمَاتٍ ** عَلَيْهَا مَعْشَرٌ أَشْبَاهُ جِنِّ

وَقَالَ: إِنَّ مَعْنَى الْمُطَهَّمَةِ وَالْمُعَلَّمَةِ وَالرَّائِعَةِ وَاحِدٌ، أَقُولُ: وَكُلٌّ مِنَ الْخَيْلِ الرَّاعِيَةِ الَّتِي تُقْتَنَى لِلتِّجَارَةِ وَالْمُطَهَّمَةِ الَّتِي يَقْتَنِيهَا الْكُبَرَاءُ وَالْأَغْنِيَاءُ لِلْمُفَاخَرَةِ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا الَّذِي يُتَنَافَسُ فِيهِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَغْلُو فِي حُبِّ الْخَيْلِ حَتَّى يَفُوقَ عِنْدَهُ كُلَّ حُبٍّ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُسَوَّمَةَ هُنَا هِيَ الَّتِي تُرْصَدُ لِلْجِهَادِ وَهُوَ قَوْلٌ لَا يُفِيدُهُ اللَّفْظُ وَلَا يَرْضَاهُ السِّيَاقُ.
(النَّوْعُ الْخَامِسُ الْأَنْعَامُ): وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرَةُ، عِرَابُهَا وَجَوَامِيسُهَا وَالْغَنَمُ ضَأْنُهَا وَمَعْزُهَا وَالْأَنْعَامُ مَالُ أَهْلِ الْبَادِيَةِ بِهَا ثَرْوَتُهُمْ، وَفِيهَا تَكَاثُرُهُمْ وَتَفَاخُرُهُمْ، وَمِنْهَا مَعَايِشُهُمْ وَمَرَافِقُهُمْ، وَلَعَلَّهُ أَخَّرَهَا عَنْ ذِكْرِ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى اقْتِنَاءِ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ يَكُونُ أَوْغَلَ فِي التَّمَتُّعِ، لِأَنَّهَا مِنْ مَتَاعِ الْفَضْلِ وَالزِّيَادَةِ وَمَا كُلُّ ذِي أَنْعَامٍ يَقْدِرُ عَلَى اقْتِنَاءِ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَيُضَاهِيهِ فِي التَّمَتُّعِ فِي الدُّنْيَا، وَإِلَّا فَإِنَّ الْأَنْعَامَ أَكْثَرُ نَفْعًا، قال تعالى فِي السُّورَةِ الَّتِي يُعَدِّدُ بِهَا النِّعَمَ عَلَى عِبَادِهِ بَعْدَ ذِكْرِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [16: 5- 8].
(النَّوْعُ السَّادِسُ الْحَرْثُ): أَيِ الزَّرْعِ وَالنَّبَاتِ نَجْمِهِ وَشَجَرِهِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، وَهُوَ قِوَامُ حَيَاةِ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ فِي الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ. وَإِنَّمَا جَعَلَهُ آخِرَ الْأَنْوَاعِ فِي الذِّكْرِ عَلَى أنه أَوَّلُهَا فِي شِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الِارْتِفَاقُ بِهِ أَعَمَّ كَانَتْ زِينَتُهُ فِي الْقُلُوبِ أَقَلَّ، فَهُوَ قَلَّمَا يَكُونُ مَانِعًا لِلْإِنْسَانِ عَنِ الْبَحْثِ عَنِ الْحَقِّ وَنَصْرِهِ، أَوْ صَادًّا عَنِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْآخِرَةِ. وَإِنَّ مِنَ النِّعَمِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ نِعْمَةِ الْحَرْثِ وَأَعَمُّ وَأَشْمَلُ، وَهُوَ الْهَوَاءُ الَّذِي لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ الْأَحْيَاءُ لَحْظَةً وَاحِدَةً سَوَاءٌ مِنْهَا النَّبَاتُ وَالْحَيَوَانُ؛ وَهُوَ لِذَلِكَ لَا فِتْنَةَ مِنَ التَّمَتُّعِ بِهِ، وَقَلَّمَا يُفَكِّرُ الْإِنْسَانُ بِغِبْطَتِهِ بِهِ أَوْ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ.
ثُمَّ قال تعالى: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} أَيْ ذَلِكَ الَّذِي ذُكِرَ مِنَ الْأَنْوَاعِ السِّتَّةِ هُوَ مَا يَسْتَمْتِعُ بِهِ النَّاسُ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا- أَيِ الأولى- وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَرْجِعِ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ الَّتِي تَكُونُ بَعْدَ مَوْتِ النَّاسِ وَبَعْثِهِمْ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا كُلَّ هَمِّهِمْ فِي هَذَا الْمَتَاعِ الْقَرِيبِ الْعَاجِلِ بِحَيْثُ يَشْغَلُهُمْ عَنْ الِاسْتِعْدَادِ لِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ فِي الْآجِلِ، كَمَا سَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِهِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ.
فَقَدْ عُلِمَ مِمَّا شَرَحْتُهُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الشَّهَوَاتِ بَيَانٌ لِمَا فَطَرَ عَلَيْهِ النَّاسَ مِنْ حُبِّهَا وَزَيَّنَهُ فِي نُفُوسِهِمْ، وَتَمْهِيدٌ لِتَذْكِيرِهِمْ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا لَا لِبَيَانِ قُبْحِهَا فِي نَفْسِهَا كَمَا يَتَوَهَّمُ الْجَاهِلُ، فَإِنَّ اللهَ تعالى مَا فَطَرَ النَّاسَ عَلَى شَيْءٍ قَبِيحٍ بَلْ خَلَقَهُمْ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَلَا جَعَلَ دِينَهُ مُخَالِفًا لِفِطْرَتِهِ بَلْ مُوَافِقًا لَهَا كَمَا قَالَ: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [30: 30] وَكَيْفَ يَكُونُ حُبُّ النِّسَاءِ فِي أَصْلِ الْفِطْرَةِ مَذْمُومًا، وَهُوَ وَسِيلَةُ إِتْمَامِ حِكْمَتِهِ تعالى فِي بَقَاءِ النَّوْعِ إِلَى الْأَجَلِ الْمُسَمَّى، وَهُوَ مِنْ آيَاتِهِ تعالى الدَّالَّةِ عَلَى حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، كَمَا قَالَ: {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [30: 21] وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّهُنَّ، وَكَيْفَ يَكُونُ حُبُّ الْمَالِ مَذْمُومًا لِذَاتِهِ وَاللهُ تعالى قَدْ جَعَلَ بَذْلَ الْمَالِ مِنْ آيَاتِ الإيمان وَهُوَ تعالى يَنْهَى عَنِ الْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ فِي إِنْفَاقِهِ كَمَا يَنْهَى عَنِ الْبُخْلِ بِهِ، وَقَدِ امْتَنَّ عَلَى نَبِيِّهِ بأنه وَجَدَهُ عَائِلًا أَيْ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ، وَجَعَلَ الْمَالَ قِوَامًا لِلْأُمَمِ وَمُعَزِّزًا لِلدِّينِ وَوَسِيلَةً لِإِقَامَةِ رُكْنَيْنِ مِنْ أَرْكَانِهِ وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ تعالى، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَلَا أَرَانِي فِي حَاجَةٍ إِلَى الْكَلَامِ فِي حُبِّ الْبَنِينَ وَالْخَيْلِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ؛ فَإِنَّ الشُّبْهَةَ فِيهَا لِلْغَالِينَ فِي الزُّهْدِ أَضْعَفُ، فَعَلَى الْمُؤْمِنِ الْمُتَّقِي أَلَّا يُفْتَنَ بِهَذِهِ الشَّهَوَاتِ وَيَجْعَلَهَا أَكْبَرَ هَمِّهِ وَالشَّاغِلَ لَهُ عَنْ آخِرَتِهِ، فَإِذَا اتَّقَى ذَلِكَ وَاسْتَمْتَعَ بِهَا بِالْقَصْدِ وَالِاعْتِدَالِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِ اللهِ تعالى فَهُوَ السَّعِيدُ فِي الدَّارَيْنِ {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [2: 201].
{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}.
الْقِرَاءَاتُ:
لِلْعَرَبِ فِي مِثْلِ هَمْزَتَيْ {أَؤُنَبِّئُكُمْ} أَيْ مَا كَانَتْ أُولَاهُمَا مَفْتُوحَةً وَالثَّانِيَةُ مَضْمُومَةً أَرْبَعُ لُغَاتٍ، قُرِئَ بِهَا الْقُرْآنُ بِإِذْنِ اللهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ تَسْهِيلًا عَلَيْهِمْ هُنَا.
وَفِي قوله تعالى: {أَأُنْزِلَ} فِي سُورَةِ ص وَقوله: {أَأُلْقِيَ} فِي سُورَةِ الْقَمَرِ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ سِوَاهَا.
(إِحْدَاهَا): تَحْقِيقُ الْهَمْزَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ مَدٍّ بَيْنَهُمَا وَعَلَيْهِ الْقُرَّاءُ الْكُوفِيُّونَ وَابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَهِشَامٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ فِي السُّوَرِ الثَّلَاثِ.
(الثَّانِيَةُ): تَحْقِيقُ الْهَمْزَتَيْنِ مَعَ الْمَدِّ بَيْنَهُمَا وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ هِشَامٍ فِي السُّوَرِ الثَّلَاثِ.
(الثَّالِثَةُ): تَحْقِيقُ الأولى وَتَسْهِيلُ الثَّانِيَةِ مَعَ الْمَدِّ بَيْنَهُمَا، وَالتَّسْهِيلُ قِرَاءَةُ الْهَمْزَةِ بَيْنَ نَفْسِهَا وَبَيْنَ حَرْفِ حَرَكَتِهَا، وَهُوَ أَنْ تُجْعَلَ هُنَا بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْوَاوِ، وَيُعَبِّرُ بَعْضُهُمْ عَنِ الْمَدِّ بِإِدْخَالِ أَلِفٍ بَيْنَ الْهَمْزَتَيْنِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهِيَ قِرَاءَةُ قَالُونَ.
(الرَّابِعَةُ): تَحْقِيقُ الأولى وَتَسْهِيلُ الثَّانِيَةِ مِنْ غَيْرِ مَدٍّ، وَهِيَ قِرَاءَةُ وَرْشٍ وَابْنِ كَثِيرٍ.
وَهُنَاكَ قِرَاءَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ لُغَتَيْنِ، وَهِيَ الْمَدُّ وَعَدَمُهُ مَعَ التَّسْهِيلِ وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو، وَعَنْ هِشَامٍ تَفْرِيقٌ بَيْنَ مَا هُنَا وَمَا فِي الْقَمَرِ وص وَهُوَ أنه الْمَدُّ هُنَا مَعَ التَّحْقِيقِ، وَالْقَصْرُ هُنَاكَ مَعَهُ. وَفِي قوله تعالى: {وَرِضْوَانٌ} لُغَتَانِ ضَمُّ الرَّاءِ وَهِيَ قِرَاءَةُ عَاصِمٍ فِيمَا عَدَا قوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} [5: 16] وَكَسْرُهَا وَهِيَ قِرَاءَةُ الْبَاقِينَ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ.
قوله تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} الْآيَةَ. بَيَانٌ وَتَفْصِيلٌ لِقوله تعالى: {وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} وَبَدَأَهُ بِالِاسْتِفْهَامِ لِأَجْلِ تَوْجِيهِ النُّفُوسِ إِلَى الْجَوَابِ وَتَشْوِيقِهَا إِلَيْهِ، وَالتَّنْبِئَةُ بِالشَّيْءِ: التَّخْبِيرُ بِهِ كَالْإِنْبَاءِ بِمَعْنَى الأخبار، وَقَالَ فِي الْكُلِّيَّاتِ: النَّبَأُ وَالْإِنْبَاءُ لَمْ يَرِدَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا لِمَا لَهُ وَقْعٌ وَشَأْنٌ عَظِيمٌ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّعْبِيرُ بِمَادَّةِ النَّبَأِ تَشْوِيقًا آخَرَ. وَقوله: {لَكُمْ} إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَسَائِرِ الشَّهَوَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَكَوْنُ مَا سَيَأْتِي فِي جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ خَيْرًا مِنْ تِلْكَ الشَّهَوَاتِ يُشْعِرُ بِأَنَّ تِلْكَ الشَّهَوَاتِ خَيْرٌ فِي نَفْسِهَا أَوْ لَيْسَتْ بِشَرٍّ، وَالصَّوَابُ أَنَّهَا خَيْرٌ وَمِنْ أَجَلِّ نِعَمِ اللهِ تعالى عَلَى النَّاسِ، وَإِنَّمَا يَعْرِضُ الشَّرُّ فِيهَا كَمَا يَعْرِضُ فِي سَائِرِ نِعَمِهِ تعالى عَلَى النَّاسِ فِي أَنْفُسِهِمْ كَحَوَاسِّهِمْ وَعُقُولِهِمْ وَفِي غَيْرِهَا حَتَّى فِي الشَّرِيعَةِ. فَالَّذِي يُسْرِفُ فِي حُبِّ النِّسَاءِ حَتَّى يُعْطِيَ امْرَأَةً أَوْ وَلَدَهَا حَقَّ غَيْرِهِمَا أَوْ يُهْمِلَ لِأَجْلِهَا تَرْبِيَةَ وَلَدِهِ مِنْ غَيْرِهَا أَوْ يَتْرُكَ حَقَّ اللهِ وَطَاعَتَهُ تَقَرُّبًا إِلَيْهَا أَوْ يَعْتَدِيَ فِي ذَلِكَ بِأَنْ يُحِبَّ امْرَأَةَ غَيْرِهِ، هُوَ كَمَنْ يَسْتَعْمِلُ عَقْلَهُ فِي اسْتِنْبَاطِ الْحِيَلِ لِهَضْمِ حُقُوقِ النَّاسِ وَإِيذَائِهِمْ، أَوْ يَحْتَالُ فِي نُصُوصِ الشَّرِيعَةِ وَيُئَوِّلُهَا حَتَّى يُفَوِّتَ الْغَرَضَ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَتُتْرَكَ الْفَرَائِضُ وَتُهْدَمَ الْأَرْكَانُ، فَسُوءُ سُلُوكِ النَّاسِ فِي الِانْتِفَاعِ بِالنِّعَمِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّعَمَ شَرٌّ فِي ذَاتِهَا وَلَا كَوْنِ حُبِّهَا شَرًّا مَعَ الْقَصْدِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ وَالْفِطْرَةِ فِي ذَلِكَ.
أَمَّا الْجَوَابُ عَنْ الِاسْتِفْهَامِ فَهُوَ قوله: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ} جَعَلَ مَا أَعَدَّهُ لِلْمُتَّقِينَ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى التَّقْوَى نَوْعَيْنِ: نَوْعًا جُسْمَانِيًّا نَفْسِيًّا وَهُوَ الْجَنَّاتُ وَمَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرَاتِ، وَالْأَزْوَاجِ الْمُطَهَّرَاتِ مِمَّا يُعْهَدُ فِي نِسَاءِ الدُّنْيَا مِنَ الشَّوَائِبِ، وَنَوْعًا رُوحَانِيًّا عَقْلِيًّا وَهُوَ رِضْوَانُ اللهِ تعالى وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ التَّقْوَى وَالْجَنَّاتِ وَالْأَزْوَاجِ الْمُطَهَّرَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ- وَلَا يَخْفَى مَا فِي إِضَافَةِ لَفْظِ رَبِّ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَّقِينَ مِنَ الْإِشْعَارِ بِفَضْلِهِمْ وَعِنَايَةِ مَنْ رَبَّاهُمْ بِعِنَايَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ بِشَأْنِهِمْ، وَأَمَّا الرِّضْوَانُ فَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الرِّضَا مَعَ مَا فِي زِيَادَةِ الْمَبْنَى مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَعْنَى فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَرِضْوَانٌ عَظِيمٌ مِنَ اللهِ لَا يَشُوبُهُ وَلَا يَعْقُبُهُ سُخْطٌ، وَفِي سُورَةِ التَّوْبَةِ: {وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [9: 72] وَفِي هَذَا مِنْ تَفْضِيلِ الرِّضْوَانِ عَلَى نَعِيمِ الْجَنَّاتِ وَمَا فِيهَا مَا لَا غَايَةَ وَرَاءَهُ وَفِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [57: 20] وَهَذِهِ الْآيَةُ أَوْجَزُ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا عَلَى أَنَّهَا فِي مَوْضُوعِهَا، وَفِيهَا مِنْ زِيَادَةِ الْفَائِدَةِ بَيَانُ جَزَاءِ الْمُسْرِفِينَ وَالْمُعْتَدِينَ فِي هَذِهِ الشَّهَوَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي تَشْغَلُهُمْ عَنْ حُقُوقِ اللهِ وَتَحْمِلُهُمْ عَلَى هَضْمِ حُقُوقِ خَلْقِهِ، وَجَزَاءِ الْمُقْتَصِدِينَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ اللهَ فِي تَمَتُّعِهِمْ وَلَا يَنْسَوْنَ اللهَ وَلَا الدَّارَ الْآخِرَةَ، وَلَعَلَّنَا إِذَا أَمْهَلَ الزَّمَانُ وَبَلَغْنَا سُورَةَ الْحَدِيدِ نُبَيِّنُ مَا فِي الْآيَةِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ الرِّضْوَانِ فِي الْآيَةِ: وَأَكْبَرُ مِنْ هَذِهِ اللَّذَّاتِ كُلِّهَا رِضْوَانُ اللهِ تعالى، وَهَذَا يَدُلُّنَا عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ طَبَقَاتٌ وَمَرَاتِبُ كَمَا نَرَاهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَفْهَمُ مَعْنَى رِضْوَانِ اللهِ تعالى وَلَا يَكُونُ بَاعِثًا لَهُ عَلَى تَرْكِ الشَّرِّ وَلَا عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ، وَإِنَّمَا يَفْهَمُونَ مَعْنَى اللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ الَّتِي جَرَّبُوهَا فَكَانَتْ أَحْسَنَ الْأَشْيَاءِ مَوْقِعًا مِنْ نُفُوسِهِمْ فَهُمْ فِيهَا يَرْغَبُونَ وَلِأَجْلِهَا يَعْمَلُونَ، وَلَكِنَّ جَمِيعَ الْمُتَّقِينَ يَعْرِفُونَ فِي الْآخِرَةِ هَذِهِ اللَّذَّةَ الَّتِي لَمْ يَكُونُوا يَعْقِلُونَ لَهَا مَعْنًى فِي الدُّنْيَا.
{وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ- رَحِمَهُ اللهُ-: خَتَمَ الْآيَةَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ لِلْإِشْعَارِ بأنه لَيْسَ كُلُّ مَنِ ادَّعَى التَّقْوَى فِي نَفْسِهِ أَوْ بِلِسَانِهِ يَكُونُ مُتَّقِيًا، وَإِنَّمَا الْمُتَّقِي عِنْدَ اللهِ هُوَ مَنْ يَعْلَمُ اللهُ مِنْهُ التَّقْوَى، وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ لِلنَّاسِ وَإِيقَاظٌ لِمُحَاسَبَةِ نُفُوسِهِمْ عَلَى التَّقْوَى لِئَلَّا يَغُشَّهُمُ الْعُجْبُ بِأَنْفُسِهِمْ فَيَحْسَبُوهَا مُتَّقِيَةً وَمَا هِيَ بِمُتَّقِيَةٍ.
{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا } قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَصَفَ أَهْلَ التَّقْوَى بِشَأْنٍ مِنْ شُئُونِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لِتَأَثُّرِ قُلُوبِهِمْ بِالتَّقْوَى الَّتِي هِيَ ثَمَرَةُ الإيمان تَفِيضُ أَلْسِنَتُهُمْ بِالِاعْتِرَافِ بِهَذَا الإيمان فِي مَقَامِ الِابْتِهَالِ وَالدُّعَاءِ، وَهَذَا اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِلْقَوْلِ بِأَنَّ الْكَلَامَ وَصْفٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا، وَلَا يَضُرُّهُ الْفَصْلُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ وَإِنْ كَانَ طَوِيلًا لِظُهُورِ الْمُرَادِ وَعَدَمِ الِالْتِبَاسِ. وَيَجُوزُ أن يكون مُرَادُهُ الْوَصْفَ فِي الْمَعْنَى لَا فِي عُرْفِ النُّحَاةِ وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنَّ الْكَلَامَ مَدْحٌ أَوِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ أُولَئِكَ الْمُتَّقُونَ الَّذِينَ لَهُمْ هَذَا الْجَزَاءُ الْحُسْنُ؟ فَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ... إِلَخْ.
وَقَالُوا فِي قوله تعالى: {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} إِنَّهُمْ رَتَّبُوا طَلَبَ الْمَغْفِرَةِ وَالْوِقَايَةِ مِنَ النَّارِ عَلَى الإيمان، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الإيمان وَحْدَهُ كَافٍ فِي اسْتِحْقَاقِهِمَا مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَأَقُولُ: قَدْ يَصِحُّ هَذَا إِذَا أُرِيدَ مَغْفِرَةُ الشِّرْكِ السَّابِقِ عَلَى الإيمان وَمَا تَبِعَهُ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْوِقَايَةِ مِنَ الْخُلُودِ فِي النَّارِ بِذَلِكَ؛ فَإِنَّ الإسلام يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ كَمَا وَرَدَ. وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِحَّ إِذَا أُرِيدَ بِهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ مُؤْمِنًا وَلَا يَعْمَلُ صَالِحًا بَلْ يَكُونُ مُنْغَمِسًا فِي الْمَعَاصِي وَالْخَطَايَا ثُمَّ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا لِلْمَغْفِرَةِ وَالْوِقَايَةِ مِنَ الْعَذَابِ، فَإِنَّ الْعَقْلَ وَالنَّقْلَ يُحِيلَانِ هَذَا الْفَرْضَ، ذَلِكَ أَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنْ سُنَّةِ اللهِ تعالى فِي الْإِنْسَانِ أَنَّ عَقَائِدَهُ الرَّاسِخَةَ الْيَقِينِيَّةَ لَهَا السُّلْطَانُ الْأَعْلَى عَلَى أَعْمَالِهِ الْبَدَنِيَّةِ، وَمَا الإيمان إِلَّا الِاعْتِقَادُ الْيَقِينِيُّ الرَّاسِخُ فِي الْعَقْلِ الْمُهَيْمِنُ عَلَى الْقَلْبِ، وَلَا عَمَلَ إِلَّا عَنْ فِكْرٍ مِنَ الْعَقْلِ أَوْ وِجْدَانٍ مِنَ الْقَلْبِ، فَأَعْمَالُ الْمُؤْمِنِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ تَابِعَةً لِإِيمَانِهِ، لَا تَسْتَبِدُّ دُونَهُ وَلَا تَتَحَوَّلُ عَنْ طَاعَتِهِ إِلَّا لِنِسْيَانٍ أَوْ جَهَالَةٍ، كَغَلَبَةِ انْفِعَالِهِ يَعْرِضُ وَلَا يَلْبَثُ أَنْ يَزُولَ وَتُقَفَّى التَّوْبَةُ عَلَى أَثَرِهِ فَتَمْحُوهُ {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [4:17] فَهَذَا دَلِيلُ الْعَقْلِ. وَأَمَّا النَّقْلُ فَالْآيَاتُ الَّتِي يَعْسُرُ إِحْصَاؤُهَا وَمِنْهَا فِي الْمَغْفِرَةِ قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [20:82] وَقَوْلُهُ فِي حِكَايَةِ دُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} إِلَى قوله: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} [40:7- 9] وَالْفَرْقُ بَيْنَ وَعْدِهِ بِالْمَغْفِرَةِ وَبَيْنَ حِكَايَتِهِ أَنَّ دُعَاءَ الْمُسْتَغْفِرِينَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ، عَلَى أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي نُفَسِّرُهَا لَا تُعَارِضُ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا بَلْ تُؤَيِّدُهَا؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ فِيهَا لَمْ يُرَدْ بِهِ أَنَّ كُلَّ مُتَّقٍ يَنْطِقُ بِهِ نُطْقًا بِلِسَانِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ لِشَأْنِ الْمُتَّقِينَ الْمَوْصُوفِينَ بِمَا يَأْتِي فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ مِنْ أَكْمَلِ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، عَلَى أنه لَوْ لَمْ يَكُنِ الْكَلَامُ فِي الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ وَلَوْ لَمْ يُوصَفُوا بَعْدَ الدُّعَاءِ بِمَا يَأْتِي مِنَ الصِّفَاتِ بِأَنْ قِيلَ: لِلَّذِينَ آمَنُوا عِنْدَ رَبِّهِمْ... إِلَى آخِرِ الدُّعَاءِ فَقَطْ، لَكَانَ لَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْمُرَادَ بالإيمان الإيمان الصَّحِيحُ الَّذِي تَصْدُرُ عَنْهُ آثَارُهُ مِنْ تَرْكِ الْمَعَاصِي وَعَمَلِ الصَّالِحَاتِ لِتَتَّفِقَ الْآيَةُ مَعَ سَائِرِ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْمُوَافِقَةِ لِلْعَقْلِ وَالْعِلْمِ بِطَبِيعَةِ الْبَشَرِ، وَالْإِجْمَاعُ وَالسَّلَفُ عَلَى أَنَّ الإيمان قَوْلٌ وَاعْتِقَادٌ وَعَمَلٌ، وَلَكِنَّ الْقَوْمَ غَفَلُوا عَنْ هَذَا وَحُجِبُوا عَنْهُ بِالْتِمَاسِ مَا يُؤَيِّدُونَ بِهِ مَذَاهِبَهُمْ وَيُفَنِّدُونَ بِهِ مَا خَالَفَهَا، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ فِي الإيمان وَالْعَمَلِ مِنْ قَبْلُ، وَلَا نَزَالُ نُبْدِئُ الْقَوْلَ فِيهَا وَنُعِيدُهُ لَعَلَّ التَّكْرَارَ فِي الْمَقَامَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ يُؤَثِّرُ فِي صَخْرَةِ التَّقْلِيدِ الصَّمَّاءِ فَيُفَتِّتُهَا أَوْ يَنْسِفُهَا نَسْفًا فَيَعُودُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى إِيمَانِ الْقُرْآنِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَصَفْوَةُ عُلَمَاءِ الْخَلَفِ كَحُجَّةِ الإسلام الْغَزَالِيِّ فِي الْمَشْرِقِ، وَشَيْخِ الإسلام ابْنِ تَيْمِيَةَ فِي الْوَسَطِ، وَالْعَلَّامَةِ الشَّاطِبِيِّ صَاحِبِ الْمُوَافَقَاتِ فِي الْمَغْرِبِ- كُلُّ هَؤُلَاءِ مِنَ الْقُرُونِ الْوُسْطَى وَحَسْبُكَ بِالْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ.